قد يكون الجدُّ أحياناً مخيفاً، لا تنفع معه الحيلة والطُّرْفة، ولا تجدي فيه النادرة والنُّكتة، فيبحث (أبو دلامة) عن طريقة للنجاة حتى يهتدي إليها.
ومن ذلك ما حصل له مع المهدي، فقد أقسم يوماً حين علم بإسرافه في السُّكْر أن يرسله إلى الحرب لمقاتلة الخارجين على الدّولة العباسيّة، وحاول (أبو دلامة) أن يتخلّص بإحدى الوسائل فلم يستطع، فأخذه القائد (رَوْحُ بن حاتم المهلَّبيّ) معـه لقتـال الخوارج، وأصرَّ (روح) أن يكون أبو دلامة قريباً منه، ليزجّه في أقرب فرصة تسنح أمامه للقتال، فلمّا التقى الجمعان، التفت (أبو دلامة) إلى المهلَّبيّ وقال له:
- لو أن سيفك هذا بيدي، وفرسك الأصيلة هذه تحتي، لفعلت بالأعداء ما يرضيك.
وكان أبو دلامة يعتقد أن القائد لا يمكن أن يتخلَّى عن سيفه وفرسه لمداعبة من مداعبات أبي دلامة، ولكنّ ما حصل كاد يشلُّ أوصال أبي دلامة؛ فقد سارع القائد (رَوْح المهلبيُّ) بالنزول عن فرسه، ونزع درعه وسيفه ودفعهما إلى أبي دلامة، وجيء بغيرهما له بسرعة.
في تلك اللحظة، حاول أبو دلامة محاولته الأخيرة في التخلص من هذه الورطة، فقال للقائد:
- لديّ ثلاثة أبيات أودّ أن تسمعها.
قال القائد المهلبيّ:
- هاتها.
فأنشد أبو دلامة، وأوصاله ترتجف من الذُّعر:
إني استجرتُكَ أن أقَدَّمَ في الوغى لِتطاعُـنٍ وتنـازلٍ وضِرابِ
فَهَبِ السُّيوفَ رأيتها مشـهورةً فتركتُها ومضيـتُ في الهُراّبِ
ماذا تقول لما يجيء وما يُـرى من واردات الموتِ في النُّشّابِ?
فلم تحرّك هذه الأبيات خلجةً من خلجات القائد روح بن حاتم المهلبيّ.
في تلك الأثناء برز مقاتل من الأعداء يدعو للمبارزة، فقال القائد لأبي دلامة:
- اخرجْ إليه يا أبا دلامة.
فتلكّأ أبو دلامة، وحاول أن يتراجع وهو يقول:
- إنه أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، ولكني جائع، فَمُرْ لي بشيء آكله ثم أخرج.
فأمر له القائد برغيفين ودجاجة، فأخذها أبو دلامة وتقدّم إلى الساحة المكشوفة الخالية التي تفصل بين الجيشين، وقد بدا فيها الفارس المعادي شاهراً سيفه، ينتظر من يطلع إليه من جيش الخليفة.
وراح الجمعان ينظران إلى فارس أسود طويل هزيل، يسير بخطوات حذرة بطيئة، كأنه يطلب من جواده أن يتريّث، فيطيعه الجواد، وما إن وصل قريباً من العدو، حتى أعاد سيفه إلى غمده، والفارس الآخر ينظر إليه، ويعجب من تصرُّفه، وحين صار يسمع أحدهما الآخر، قال أبو دلامة يخاطب ذلك الفارس:
- أتقتل من لا يقاتلك?.
قال الفارس:
- لا.
قال أبو دلامة :
- أتقتل رجلاً على دينك?.
قال الفارس:
- لا.
قال أبو دلامة :
- إذن لماذا برزت لتقتلني?.
قال الفارس:
- اذهب عنّي إلى لعنة الله، إن لم تكن تريد القتال، فلماذا برزت?.
قال أبو دلامة :
- لا أذهب قبل أن أكمل حديثي.
قال الفارس:
- هات ما عندك.
قال أبو دلامة :
- هل بيننا عداوة أو ثأر?.
قال الفارس:
- لا.
قال أبو دلامة :
- هل بين أهلي وأهلك عداوة أو بغضاء?.
قال الفارس:
- لا.. جزاك الله خيراً فانصرفْ.
قال أبو دلامة :
- لا أنصرف قبل أن تأكل من هذا الزاد الذي معي، لتكون بيننا مودّة ومؤاكلة وعشرة.
فقرّب الفارس جواده من جواد (أبي دلامة) وصار أحدهما بمواجهة الآخر، وراحا يأكلان معاً، ممّا كان يحمله أبو دلامة من زاد.
في تلك اللحظة، كان الجمعان المتقابلان قد غُلبا ضحكاً، ولم يعرفا بالضّبط ما الذي قاله أبو دلامة وفعله ليجعل من ذلك المقاتل الصّنْديد صديقاً وديعاً إلى هذا الحدّ.
وحين عاد أبو دلامة إلى صفوف الجند، قابله القائد روح المهلبيّ بابتسامة يحاول إخفاءها فلا يستطيع، وسأله:
- ماذا فعلت?.
قال أبو دلامة:
- ها أنذا قد كفيتك مقاتلاً باسلاً، فقل لغيري أن يكفيك مقاتلاً آخر كما كفيتك.
فصمت القائد، وخرج فارس آخر يدعو إلى المبارزة، فقال القائد لأبي دلامة:
- اخرج إليه.
فارتجل أبو دلامة هذه الأبيات، وقد رمى سيفه عن فرسه، مفضّلاً السلامة على الحرب والقتال:
إني أعوذ بـرَوْح أن يقدّمنـي إلى البراز فتخزى بي بنو أسـد
إن البـراز إلى الأقران أعلمـه ممّا يفرّق بيـن الرُّوح والجسـد
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لهـا وأصبحتْ لجميع الخلق بالرصدِ
إنّ المهلّب حُبَّ الموت أورثكـم وما ورثتُ اختيار الموت من أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجُدْتُ بها لكنهـا خُلقـتْ فـرداً فلم أجُـدِ
وأدار أبو دلامة ظهره وابتعد، فيما كان القائد المهلبيُّ يشيِّعه بابتسامة راثية.
***
وأمر المهدي أبا دلامة بالخروج لقتال عبد الله بن علي فقال أبو دلامة:
- أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن لا تحضرني شيئاً من عساكرك؛ فإني شهدت تسعة عساكر انهزمت كلّها، وأخاف أن يكون عسكرك العاشر.
فضحك المهديّ وأعفاه.
ومن ذلك ما حصل له مع المهدي، فقد أقسم يوماً حين علم بإسرافه في السُّكْر أن يرسله إلى الحرب لمقاتلة الخارجين على الدّولة العباسيّة، وحاول (أبو دلامة) أن يتخلّص بإحدى الوسائل فلم يستطع، فأخذه القائد (رَوْحُ بن حاتم المهلَّبيّ) معـه لقتـال الخوارج، وأصرَّ (روح) أن يكون أبو دلامة قريباً منه، ليزجّه في أقرب فرصة تسنح أمامه للقتال، فلمّا التقى الجمعان، التفت (أبو دلامة) إلى المهلَّبيّ وقال له:
- لو أن سيفك هذا بيدي، وفرسك الأصيلة هذه تحتي، لفعلت بالأعداء ما يرضيك.
وكان أبو دلامة يعتقد أن القائد لا يمكن أن يتخلَّى عن سيفه وفرسه لمداعبة من مداعبات أبي دلامة، ولكنّ ما حصل كاد يشلُّ أوصال أبي دلامة؛ فقد سارع القائد (رَوْح المهلبيُّ) بالنزول عن فرسه، ونزع درعه وسيفه ودفعهما إلى أبي دلامة، وجيء بغيرهما له بسرعة.
في تلك اللحظة، حاول أبو دلامة محاولته الأخيرة في التخلص من هذه الورطة، فقال للقائد:
- لديّ ثلاثة أبيات أودّ أن تسمعها.
قال القائد المهلبيّ:
- هاتها.
فأنشد أبو دلامة، وأوصاله ترتجف من الذُّعر:
إني استجرتُكَ أن أقَدَّمَ في الوغى لِتطاعُـنٍ وتنـازلٍ وضِرابِ
فَهَبِ السُّيوفَ رأيتها مشـهورةً فتركتُها ومضيـتُ في الهُراّبِ
ماذا تقول لما يجيء وما يُـرى من واردات الموتِ في النُّشّابِ?
فلم تحرّك هذه الأبيات خلجةً من خلجات القائد روح بن حاتم المهلبيّ.
في تلك الأثناء برز مقاتل من الأعداء يدعو للمبارزة، فقال القائد لأبي دلامة:
- اخرجْ إليه يا أبا دلامة.
فتلكّأ أبو دلامة، وحاول أن يتراجع وهو يقول:
- إنه أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، ولكني جائع، فَمُرْ لي بشيء آكله ثم أخرج.
فأمر له القائد برغيفين ودجاجة، فأخذها أبو دلامة وتقدّم إلى الساحة المكشوفة الخالية التي تفصل بين الجيشين، وقد بدا فيها الفارس المعادي شاهراً سيفه، ينتظر من يطلع إليه من جيش الخليفة.
وراح الجمعان ينظران إلى فارس أسود طويل هزيل، يسير بخطوات حذرة بطيئة، كأنه يطلب من جواده أن يتريّث، فيطيعه الجواد، وما إن وصل قريباً من العدو، حتى أعاد سيفه إلى غمده، والفارس الآخر ينظر إليه، ويعجب من تصرُّفه، وحين صار يسمع أحدهما الآخر، قال أبو دلامة يخاطب ذلك الفارس:
- أتقتل من لا يقاتلك?.
قال الفارس:
- لا.
قال أبو دلامة :
- أتقتل رجلاً على دينك?.
قال الفارس:
- لا.
قال أبو دلامة :
- إذن لماذا برزت لتقتلني?.
قال الفارس:
- اذهب عنّي إلى لعنة الله، إن لم تكن تريد القتال، فلماذا برزت?.
قال أبو دلامة :
- لا أذهب قبل أن أكمل حديثي.
قال الفارس:
- هات ما عندك.
قال أبو دلامة :
- هل بيننا عداوة أو ثأر?.
قال الفارس:
- لا.
قال أبو دلامة :
- هل بين أهلي وأهلك عداوة أو بغضاء?.
قال الفارس:
- لا.. جزاك الله خيراً فانصرفْ.
قال أبو دلامة :
- لا أنصرف قبل أن تأكل من هذا الزاد الذي معي، لتكون بيننا مودّة ومؤاكلة وعشرة.
فقرّب الفارس جواده من جواد (أبي دلامة) وصار أحدهما بمواجهة الآخر، وراحا يأكلان معاً، ممّا كان يحمله أبو دلامة من زاد.
في تلك اللحظة، كان الجمعان المتقابلان قد غُلبا ضحكاً، ولم يعرفا بالضّبط ما الذي قاله أبو دلامة وفعله ليجعل من ذلك المقاتل الصّنْديد صديقاً وديعاً إلى هذا الحدّ.
وحين عاد أبو دلامة إلى صفوف الجند، قابله القائد روح المهلبيّ بابتسامة يحاول إخفاءها فلا يستطيع، وسأله:
- ماذا فعلت?.
قال أبو دلامة:
- ها أنذا قد كفيتك مقاتلاً باسلاً، فقل لغيري أن يكفيك مقاتلاً آخر كما كفيتك.
فصمت القائد، وخرج فارس آخر يدعو إلى المبارزة، فقال القائد لأبي دلامة:
- اخرج إليه.
فارتجل أبو دلامة هذه الأبيات، وقد رمى سيفه عن فرسه، مفضّلاً السلامة على الحرب والقتال:
إني أعوذ بـرَوْح أن يقدّمنـي إلى البراز فتخزى بي بنو أسـد
إن البـراز إلى الأقران أعلمـه ممّا يفرّق بيـن الرُّوح والجسـد
قد حالفتك المنايا إذ صمدت لهـا وأصبحتْ لجميع الخلق بالرصدِ
إنّ المهلّب حُبَّ الموت أورثكـم وما ورثتُ اختيار الموت من أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجُدْتُ بها لكنهـا خُلقـتْ فـرداً فلم أجُـدِ
وأدار أبو دلامة ظهره وابتعد، فيما كان القائد المهلبيُّ يشيِّعه بابتسامة راثية.
***
وأمر المهدي أبا دلامة بالخروج لقتال عبد الله بن علي فقال أبو دلامة:
- أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن لا تحضرني شيئاً من عساكرك؛ فإني شهدت تسعة عساكر انهزمت كلّها، وأخاف أن يكون عسكرك العاشر.
فضحك المهديّ وأعفاه.


تعليق